في الفترة الأخيرة، شهدت الأسواق المالية العالمية تقلباً حاداً إثر قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلقة بالتعريفات الجمركية، والتي تميزت بتذبذب لافت كان له أثر مباشر على حركة التداول. ففي خطوة أربكت المستثمرين، أعلن ترامب تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً، ما دفع الأسواق للارتفاع سريعاً. لكن هذا الارتياح لم يدم طويلاً، إذ عاد وفرض الرسوم مجدداً بعد ساعات فقط، ما زاد من حالة عدم اليقين في أوساط المتعاملين.
هذا التذبذب في القرارات، والذي أفرز تقلبات حادة وسريعة بالألوان الحمراء والخضراء على شاشات التداول، لا يمكن فصله عن مؤشرات أعمق تهز السوق الأميركية، أبرزها ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأميركية طويلة الأجل إلى مستويات تقترب من 5%، وهو رقم غير مسبوق خلال العقود الثلاثة الماضية. هذه القفزة شكّلت جرس إنذار حقيقياً، خاصة أن نسبة كبيرة من المدخرات الأميركية، سواء للأفراد أو المؤسسات، تعتمد على السندات الحكومية باعتبارها ملاذاً آمناً ومستقراً.
السندات: مقياس صحة الاقتصاد
من المعروف أن قطاع السندات يُعدّ مؤشراً رئيسياً لاتجاهات الاقتصاد، نظراً لأنه ميدان استثمار الصناديق السيادية والمؤسسات الكبرى. وعندما ترتفع عوائد السندات بهذا الشكل المفاجئ، فإن ذلك يعني ارتفاع كلفة خدمة الدين العام، وهو ما يضع ضغطاً إضافياً على ميزانية الدولة، ويهدد الاستقرار المالي.
والأخطر من ذلك، أن هذا الارتفاع يزعزع ثقة المستثمرين ويزيد من مخاوف التعثر أو التخلف عن السداد، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو الأزمة المالية العالمية عام 2008. وقد بدأت بالفعل بوادر اضطراب في الأسواق، ما ينذر بتفاقم محتمل في حال لم تُتخذ إجراءات تصحيحية جذرية.
الولايات المتحدة تفقد بريق “الملاذ الآمن”
لطالما اعتُبرت الولايات المتحدة ملاذاً آمناً لرؤوس الأموال، بفضل استقرارها السياسي والاقتصادي، وثقة العالم في أدواتها المالية. لكن اليوم، ومع تراجع أداء السندات الحكومية وارتفاع العوائد إلى مستويات مقلقة، بدأت هذه الصورة تهتز. وبدأت أميركا تفقد تدريجياً هذا الامتياز الذي مكّنها من اجتذاب الرساميل العالمية.
ولا يقف الأمر عند تراجع المؤشرات الاقتصادية، بل إن التذبذب في السياسات، خاصة الجمركية منها، يُضيف غموضاً إضافياً يدفع المستثمرين نحو الحذر، ويحثهم على البحث عن أسواق بديلة أكثر استقراراً وأقل تقلباً.
الرسوم الجمركية: أداة تفاوض أم استراتيجية اقتصادية؟
من الواضح أن الرئيس ترامب لم يستخدم الرسوم الجمركية كخيار اقتصادي طويل الأمد، بل كأداة تفاوضية للضغط على الشركاء التجاريين بهدف تحسين شروط الاتفاقات. إلا أن هذا النهج قصير النظر قد تكون له تكلفة باهظة على الاقتصاد الأميركي، وقد يفضي إلى عزلة تجارية وتراجع في مكانة الولايات المتحدة على الساحة الاقتصادية العالمية.
والنتيجة؟ سياسات وعدت بالانتعاش الاقتصادي أدت في الواقع إلى الانكماش، والتقوقع، وتراجع في قيمة الدولار، وضعف في أداء السندات، ما يضع مستقبل الاقتصاد الأميركي في مهبّ الريح.
الحاجة إلى إعادة ضبط البوصلة الاقتصادية
اليوم، تقف الولايات المتحدة عند مفترق طرق حاسم. ففي ظل تصاعد المخاوف من تكرار أزمات مالية سابقة، تبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية، ولا سيما تلك التي تُبنى على اعتبارات سياسية قصيرة الأمد.
الحفاظ على الثقة في الأسواق، واستقرار السندات، وضمان جاذبية الدولار، يتطلب قيادة اقتصادية متزنة، قادرة على التوفيق بين ضرورات التنافسية العالمية ومقتضيات الاستقرار المحلي