في كتابه الجديد “جمهورية الضمير”، يغوص الصحافي نقولا ناصيف في سيرة الزعيم السياسي اللبناني ريمون إده، كاشفاً وجهاً صلباً وثابتاً في عالم سياسي متقلب، حيث تتحوّل حياة رجل واحد إلى مرآة متعددة الوجوه للبنان بأزماته وتناقضاته.
يبدأ ناصيف من النهاية، من سرّ الموت الذي أحاط برحيل إده. لم يكن كثيرون يعلمون أنه كان مصاباً بسرطان الدم، إذ قرر أن يخفي مرضه حتى عن أقرب الناس إليه، ورفض الخضوع للعلاج حين بدأ شعره يتساقط، مفضلاً الرحيل بصمت، كما فعل الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الذي لطالما احترمه.
اختار ريمون إده أن يموت واقفًا، لا طاعنًا في السن، ولا خاضعًا للضعف أو العجز. حتى زواره كانوا يُبلّغون بأنه في ريف فرنسا، لا في المستشفى.
لكن هذا الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية، بل وثيقة سياسية وتأريخ لوطن. إذ يروي ناصيف مسيرة إده السياسية منذ ولادته في الإسكندرية عام 1913، مرورًا بمحطات انتخابية وسياسية بارزة، منها محاولاته الثلاث للوصول إلى رئاسة الجمهورية (1958، 1964، 1970)، حين خسر أمام فؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية، ما جعله يُعرف بـ”المرشح الدائم”.
رغم عدم وصوله إلى الرئاسة، كان إده يتمتع بثقل سياسي كبير، وغالبًا ما فاق حضوره دور الرئيس نفسه. كان رجل مواقف، لا مساومات، وقف في وجه اتفاق القاهرة معتبراً إياه “انتهاكاً لسيادة لبنان”، ما أدخله في عزلة سياسية، حتى سأله كمال جنبلاط: “لماذا لا توافق عليه؟”، فرد إده بجملة لخصت مسيرته: “أنا معتاد على مواقف كهذه، يتركني الناس وأبقى وحيداً”.
يتنقل ناصيف بين محطات مهمة في حياة إده، كالجبهة الوطنية الاشتراكية التي ضمّت غسان تويني وكمال جنبلاط وكميل شمعون وغيرهم، ويستعرض علاقته المعقدة بعائلات سياسية كبرى مثل عائلة بشارة الخوري، ويورد مواقف طريفة من حياته، مثل طلب شقيقة الخوري الرقص معه، ما أثار حفيظة العائلة رغم عداوتها له.
يروي ناصيف كيف بقي إده على مبادئه، رافضًا الخضوع لضغوط داخلية أو خارجية. لم يكن محبوبًا من القوى الدولية، لا من الأميركيين ولا السوريين، لأنه لم يكن أداة في يد أحد. وهو ما لخّصه البطريرك الماروني نصرالله صفير حين قال: “لو تنازل ريمون إده عن مبادئه، لأصبح رئيساً للجمهورية”.
“جمهورية الضمير” ليس فقط كتابًا عن رجل واحد، بل عن حقبة بأكملها في تاريخ لبنان، من خلال شخصية تمسّك صاحبها بالسيادة والكرامة، حتى وهو في عزلة تامة.
لكل من يريد أن يتعرّف إلى نموذج نادر في السياسة اللبنانية، صلب في قناعاته، وفِيّ لوطنه حتى في وحدته… هذا الكتاب هو أحد أهم المراجع.