في النصف الأول من القرن العشرين – قبل عصر التلفزيون – كانت الفرق المسرحية تذهب إلى الجمهور في كل مكان، وظلت هذه الفرق تنفصل وتندمج إلى أن استقرت الريادة عند نجيب الريحاني ويوسف وهبي وزكي طليمات.
آمن طليمات، بعد عودته من بعثته في الخارج، بضرورة تأسيس معهد يُعلِّم فن التمثيل، وأصبح بحكم التأسيس والتدريس أباً روحياً لأساطير التمثيل آنذاك.
في هذا العصر الصاخب بالفرق المسرحية، وُلدت سميحة أيوب عثمان في آذار/مارس عام 1932، في حي شبرا العريق، على بُعد خطوات من مسارح روض الفرج، وغير بعيدة عن أنوار شارع عماد الدين بفرقه الفنية وكازينوهاته.
يا لها من مصادفة قَدَرية أن تولد الفتاة الصغيرة في وسط مسارح القاهرة الزاهرة، لا تفصلها سوى مسافة بسيطة عن حفلات أم كلثوم في الأزبكية وقصر النيل.
وفي حي شبرا متعدد الأعراق والأديان، يؤذن مسجد الخازندارة بجوار أجراس كنيسة سانت تريز، وفي الشارع نفسه تمر سميحة بصالات السينما وتسمع أغاني فيلم “الوردة البيضاء”، أو تمثّل المشاهد التي أعجبتها لصديقاتها.
هذا التعايش بين الفن والأديان والأعراق، منحها بالفطرة وعياً مثقفاً وحساً ديمقراطياً في فهم وتقدير الأشياء.
طالبة وممثلة
من مصادفة البيئة إلى مصادفة تأسيس معهد التمثيل الذي التحقت به عام 1949 لتصقل موهبتها بالدراسة.
ولأن بنيتها الجسدية كانت تعطيها عمرًا أكبر من سنّها، نالت سميحة فرصتها الأولى في فيلم “المتشردة” عام 1947، من بطولة زوجها الأول محسن سرحان والد ابنها محمود، واستمرت في التمثيل بأدوار بسيطة إلى جانب الدراسة، في أفلام مثل “شاطئ الغرام”.
تزامن تخرجها من معهد التمثيل عام 1953 مع ثورة تموز/يوليو التي غيّرت وجه الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، حيث أُعيد تنظيم المسارح وولدت فرق جديدة مثل “مسرح التلفزيون”.
أصبح للثورة من يعبّر عنها من الفنانين الشباب مثل عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين، وسرعان ما أصبحت سميحة أيوب هي بطلة المسرح الأولى في عصر تموز/يوليو… دشّنت عصرها الذهبي آنذاك، وانضمت إلى “المسرح القومي” العريق، ونافست ممثلات عظيمات مثل أمينة رزق وسناء جميل وعايدة عبد العزيز وسهير البابلي، التي تخلّت سريعاً عن المسرح الجاد الفصيح إلى الكوميدي.
أخلصت سميحة للمسرح القومي (مسرح جورج أبيض)، وظلت ممثلته الأولى لعقود، بل وتولت رئاسته مرتين بين عامي 1975 و1989، إضافة إلى توليها إدارة المسرح الحديث.
ولعبت بطولة عشرات المسرحيات، أشهرها: “الأيدي الناعمة”، “العباسة”، “سكة السلامة”، “مصرع كليوباترا”، “كوبري الناموس”، “الناس اللي في التالت”، “الشبكة”، “الخديوي”، “دماء على أستار الكعبة”، “الوزير العاشق”، “رابعة العدوية”، “الإنسان الطيب”، “المومس الفاضلة” و”السبنسة”.
استحقّت لقب “سيدة المسرح العربي” بجدارة، لأنه لا توجد ممثلة أخرى تنافسها في عدد المسرحيات الجادة التي مثّلتها، بأداء احترافي ولغة عربية متقنة، وبعض هذه الأعمال كانت من تأليف ثالث أزواجها الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة.
أثناء زيارة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر القاهرة، شاهد سميحة في عرض “الندم” من إخراج سعد أردش عن مسرحيته “الذباب”، صافحها وقال: “أخيراً وجدت إلكترا في مصر”.
أعطت سميحة أيوب عمرها لخشبة المسرح، وأعطاها المسرح مجدها وطلاقة اللسان وفصاحته، وثقافة عميقة بالنصوص العربية والعالمية، ما جعلها تحلق بعيداً عن معظم الممثلات من مختلف الأجيال.
حضور تلفزيوني وسينمائي
على الرغم من استهلاك الجهد والطاقة بسبب الأداء اليومي ومواجهة الجمهور لأشهر متواصلة، لم تقطع سميحة الصلة بمسلسلات التلفزيون وأفلام السينما وحلقات الإذاعة، وظل صوتها المميز جداً حاضراً، حتى وإن لم تشارك بجسدها في بعض الأعمال.
وبطبيعة الحال، مع تراجع أحوال المسرح في سبعينيات القرن الماضي وتقدّمها في العمر، تباعد ظهورها على خشبة المسرح، واتجهت أكثر نحو الأفلام والمسلسلات.
ربما لا توجد ممثلة – أو ممثل – يفوقها في استمرار حضورها الفني المتصل بين عامي 1947 و2024، أي قرابة ثمانين عاماً وهي تمثل، ولا تبالي بالنجومية، وإنما بالأداء، حتى لو في مشاهد شرفية، كما تحرص على أن يكون الدور والعمل يحملان قيمة ما للناس، ولا يسقطان في فخ الابتذال والتفاهة.
بات حضورها الأيقوني قيمة في حد ذاته، قد تفوق قيمة العمل نفسه، لأنها حافظت على قناعتها بأن الفنان يجب أن يكون واعياً ومثقفاً ومعبراً عن قيمة ورسالة، وليس مجرد سلعة للتسلية.
وأتاح لها عمرها المديد أن تلتقي وتتعاون مع كل مبدعي مصر، حتى الشباب في الألفية الجديدة، لتقدّم رصيداً يزيد عن ثلاثمئة عمل فني، منها مسلسلات: “الطاووس”، “نقل عام”، “المصراوية”، “أميرة في عابدين”، “أوان الورد”، “الضوء الشارد”، “السيرة الهلالية”، “ولسه بحلم بيوم”، “المشربية” و”المحروسة 85”، وأفلام: “تيتة رهيبة”، “أرض النفاق”، “أدهم الشرقاوي” و”المتمردة”.
ما يميز سميحة أيوب أنها قدّمت نفسها باحتراف واحترام، وظلت تعمل حتى آخر لحظة في عمرها، من دون أي تنازل يشين مسيرتها.
وفي حياتها الواقعية أيضاً، حافظت على الاحترام في علاقاتها مع الجميع، مع خفة ظل لا تظهر للأسف في معظم أدوارها.
تعرف كممثلة كيف تختار طبقة الصوت المناسبة للشخصية، والانفعال الضروري دون زيادة أو نقصان، والملابس التي تُكمل الإحساس بالدور.
فهي ممثلة محترفة تقدّم دائماً ما يجب.
قدّمت كل ما يحلم به ممثل أن يقدمه، لكن تظل خشبة المسرح هي الفردوس الحي لها، فعلى الخشبة تكتشف طاقات لا تعرف من أين تأتيها، وتحس أنها تمتلك الجمهور كله بصوتها.
تمتعت، رغم همومها الشخصية، بالقوة النفسية للحفاظ على قيمها وروحها، وأثبتت أن السن مجرد رقم لا تبالي به.
صمدت في وجه تغيّرات الأنظمة وتقلبات الحياة، وحتى على المستوى الإنساني لم تذكر أحداً من أزواجها الثلاثة بسوء، خصوصاً زوجها الثاني الفنان محمود مرسي والد ابنها علاء، والثالث سعد الدين وهبة، بينما الأول محسن سرحان عانت معه كونها كانت مراهقة تزوجت رجلاً غيوراً يفوقها في السن والخبرة.
هكذا مضت الحياة بكل أفراحها وأتراحها، وظلت سميحة واقفة على رجليها بما يليق بممثلة مسرح عظيمة.
وأخيراً جاءت اللحظة التي اعترض فيها متشددون على موضوع يحتفي بها في المقررات الدراسية، لتعني أن وعي المصريين تشوّه، وأن الفنون لم تصمد أمام هجمة الرجعية والفتاوى التي تحارب الإبداع والخيال.
من ثم، يصعب جداً تحليل تاريخها الشخصي والفني بمعزل عن التاريخ الثقافي لمصر خلال القرن العشرين كله، فمصيرها تقاطع مع مصير جميع المسرحيين الكبار في مصر، ومشاركتها التلفزيونية والسينمائية الغزيرة جعلتها تتعاون مع كل الأجيال.
ومع توديعها اليوم، نودّع مئة عام من الفن والثقافة في مصر، بكل ما لها وما عليها.