كشفت مجلة الإيكونوميست البريطانية في تقرير صادم عن ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين برصاص جيش الاحتلال الصهيوني عند نقاط توزيع المساعدات في قطاع غزة بأكثر من ثمانية أضعاف بين شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران 2025، بحيث استشهد نحو 800 فلسطيني في شهر يونيو وحده أثناء محاولتهم الوصول إلى الغذاء.
وتزامن هذا التصعيد الدامي مع بدء عمليات مؤسسة غزة الإنسانية، وهي الجهة الدولية التي أنشأها الاحتلال الصهيوني بدعم أمريكي بهدف تنسيق إيصال المساعدات إلى القطاع.
وأكدت المجلة أن ما رُوّج له كخطة لتقليل المعاناة الإنسانية، تحوّل في الميدان إلى واحدة من أكثر المراحل دمويةً في سياق المجاعة المستمرة، مع استمرار القصف الإسرائيلي وتقييد الحركة والوصول.
المساعدات تحت النار
أبرز تقرير الإيكونوميست، أن الوصول أصبح إلى المواد الغذائية في غزة “نشاطًا محفوفًا بالموت”، خاصةً في المناطق الشمالية مثل مدينة غزة ومحيطها، حيث ينتشر مئات آلاف النازحين في ظروف بالغة الصعوبة، ويُضطر السكان للانتظار في طوابير لساعات طويلة دون ضمان عودتهم أحياء.
وتظهر صور الأقمار الصناعية والخرائط الحرارية التي أوردتها المجلة، بوضوح كيف تحولت الساحات القريبة من مراكز توزيع المساعدات إلى مناطق إطلاق نار متكرر، فيما تُفيد شهادات شهود عيان أن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع تجمعات المنتظرين كـ”أهداف محتملة”، بذريعة ضبط الأمن أو وجود تهديدات مسلحة في المناطق المكتظة.
وفي إحدى أبرز حوادث يونيو، استشهد أكثر من 100 شخص في يوم واحد حين فتحت دبابة إسرائيلية النار على قافلة كانت تنتظر شاحنة مساعدات في تقاطع شارع الجلاء شمال غزة، وهو الموقع الذي وثّقته الأقمار الصناعية كواحد من “أخطر مناطق تلقي الغذاء في القطاع”، بحسب المجلة.
تقييم أممي يؤكد: غزة على شفا المجاعة
تقرير الإيكونوميست استند أيضًا إلى نتائج “الصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” (IPC) الذي يعد المعيار العالمي لتقييم الجوع، والذي خلُص في آخر تحديث له إلى أن “شح الغذاء في معظم مناطق قطاع غزة بلغ بالفعل مستوى المجاعة”.
ووفق التصنيف، فإن مدينة غزة – التي شهدت النسبة الأكبر من القتلى قرب مراكز المساعدات – تجاوزت بالفعل المرحلة الخامسة من التصنيف، وهي مرحلة “المجاعة الكاملة”، التي تُعرّف بأنها تترافق مع معدلات وفاة مرتفعة وانهيار شامل في الوصول إلى الغذاء والماء الصالح للشرب.
وتشير البيانات الأممية إلى أن نسبة سوء التغذية الحاد لدى الأطفال دون سن الخامسة ارتفعت بشكل كارثي خلال يوليو/تموز، لتبلغ حدودًا تُصنف عالميًا بأنها “خط أحمر لا يمكن تجاهله”، مع تسجيل حالات وفاة بسبب الجوع في مستشفيات الشمال والوسط، لا سيما في مشفى الشفاء الميداني ومرفق النصيرات الطبي.
فشل “مؤسسة غزة الإنسانية”
وعلى الرغم من التوقعات العالية التي صاحبت إطلاق “مؤسسة غزة الإنسانية” برعاية أوروبية وأميركية، إلا أن الإيكونوميست تقول إن آلية المؤسسة تعثرت منذ اليوم الأول بسبب غياب التنسيق الفعلي مع الأطراف المحلية، إضافة إلى الرفض الإسرائيلي السماح بتوزيع المساعدات في مناطق واسعة من قطاع غة.
ووفقاً لمسؤولين في الأمم المتحدة رفضوا الكشف عن هويتهم، فإن سلطات الاحتلال “تُخضع كل عملية تسليم للمساعدات لتقييم أمني طويل وبيروقراطي”، ما أدى إلى إتلاف شحنات كاملة من المواد الغذائية بسبب التأخير، بل وعودة عدد من الشاحنات إلى مصر دون تفريغ حمولتها.
وقد تحوّل مفهوم “تلقي المساعدات” من فرصة للبقاء إلى ما يشبه “كمينًا للموت”، بحسب وصف أحد الناجين في شهادة نقلتها الإيكونوميست: “خرجنا أنا وابني لنحصل على كيس دقيق من عند مفترق جباليا، لكن الجيش أطلق النار فجأة، سقط الناس على الأرض، واختفى ابني بين الأجساد. لم أجده حتى الآن.”
وتُظهر روايات أخرى مشاهد مروعة: أطفال ممددون بجوار أكياس أرز اخترقتها الرصاصات، ونساء يُسحبن من تحت الركام بعدما انهار جدار مجاور نتيجة انفجار قذيفة.
وقد انتقد خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة هذه الممارسات، معتبرين أن استهداف مراكز المساعدات “يرقى إلى جريمة حرب” بموجب اتفاقيات جنيف، وطالبوا بتحقيق دولي عاجل في استهداف المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء.
صمت دولي وقلق متصاعد
في ظل هذا الوضع، يبدي مراقبون قلقًا من “التواطؤ الدولي بالصمت”، حيث تواصل القوى الغربية التركيز على آلية التسليم الفني للمساعدات دون ضمانات لحماية المدنيين.
وصرح مسؤول كبير في برنامج الأغذية العالمي للمجلة أن “الوقت ينفد، ونحتاج إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإلا فإن المجاعة ستتحول إلى إبادة صامتة”.
وأشار إلى أن هناك أكثر من مليون شخص في غزة مهددون بفقدان الحياة خلال أسابيع إذا استمرت هذه المعادلة الدموية.
المساعدات كأداة حرب؟
في ظل هذا المشهد، لم تعد المساعدات تُرى كطوق نجاة، بل باتت توصف على لسان كثير من سكان القطاع بأنها “فخ نُقاد إليه بأقدامنا”.
ويطرح الوضع المأساوي الحالي أسئلة جوهرية حول جدوى أي مبادرات إنسانية لا ترافقها حماية فعلية للمدنيين، ويضع المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي جديد: هل تُسلَّم المساعدات فعلاً لإنقاذ الأرواح، أم باتت تُستخدم أداة للموت البطيء؟