More

    لبنان بين سلاح الدولة ودولة السلاح

    في بلد يعيش على حافة التوازنات الطائفية، يتحوّل السلاح من أداة مقاومة إلى عقدة وجودية تُعيق بناء الدولة وتكبح أي مشروع وطني جامع. ومع تصاعد التوتر حول ملف السلاح، وتكليف الجيش رسميًا بجمعه من بعض الفصائل، تعود أسئلة السيادة والمشروعية إلى الواجهة.

    القرار الحكومي الأخير، المدعوم أميركيًا، بشأن نزع سلاح “حزب الله”، يُنظر إليه من قبل “الثنائي الشيعي” كأجندة خارجية صريحة. الحزب وصفه بأنه “أمر عمليات أميركي” يخدم مصالح إسرائيل. لكن اختزال القضية بهذا الشكل يتجاهل بُعدًا داخليًا أعمق: قوى لبنانية مدنية وسياسية وروحية لا تسعى إلى وصاية خارجية، بل إلى “لبننة” المطلب السيادي. فالكنيسة المارونية دعت إلى “الحياد الناشط” كإطار لإعادة التوازن، فيما طرحت القوى المسيحية فكرة “الاستراتيجية الدفاعية الوطنية”، بما يعيد السلاح إلى سقف الدولة دون التنازل عن فكرة المقاومة. هؤلاء يحاولون استثمار لحظة دولية لتعديل ميزان القوى الداخلي الذي طالما كبّل الدولة.

    الاحتجاجات اللبنانية لم تكن يومًا ضد الدولة كفكرة، بل ضد ازدواجية القرار وانعدام العدالة. فشعار “كلن يعني كلن” استهدف الفساد والطبقة السياسية العاجزة عن ضبط السلاح، لا مؤسسات الدولة نفسها.

    لا يرى حزب الله نفسه فصيلاً ضمن النظام، بل مشروعًا ثوريًا عابرًا للحدود. سلاحه ليس مجرد أداة عسكرية، بل ركيزة أيديولوجية وشبكة اجتماعية واقتصادية متجذّرة. الباحث جورج قرم وصفه بأنه نتاج “لبنان المعاصر”، فيما اعتبر أسعد أبو خليل أنه يمثّل “أسلمة المبادئ اللينينية” من حيث البنية الحزبية شديدة المركزية وخطاب “المستضعفين” العالمي. من هنا، فإن الحديث عن نزع سلاح الحزب لا يُقرأ داخليًا كقرار أمني، بل كتهديد وجودي لهوية دينية واجتماعية، ما يجعل أي محاولة للتغيير بالقوة محفوفة بمخاطر الانفجار.

    في خطابه بتاريخ 15 آب 2025، حذّر الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، من “حرب أهلية” إذا مضت الحكومة في خطتها. تصريح يعكس منطقًا يرى القيادة سلطة فوق الدولة. هنا تبرز أزمة “عبادة القائد” (cult of leadership) كما يصفها أندرو هايوود: حين تُختزل السلطة في شخص بدل المؤسسات، وتتحوّل المساءلة إلى تهديد للاستقرار. وبدلاً من أن يكون النقاش حول دور الحزب سياسيًا ومؤسساتيًا، بات محاطًا بـ”قدسية الزعامة”، ما يُعقّد أي محاولة لدمجه ضمن إطار دستوري.

    لبنان اليوم أمام مفترق طرق: يحتاج إلى مشروع وطني شامل يُعيد تعريف العقد الاجتماعي على قاعدة السيادة والمواطنة، لا الزعامة والسلاح. أما دون ذلك، فستبقى الدولة رهينة ازدواجية قاتلة: دولة القانون مقابل دولة القوة، ودولة المؤسسات مقابل دولة الرموز.

    Latest articles

    spot_imgspot_img

    Related articles

    spot_imgspot_img