“إنها منظمة إجرامية”. بكلمات قليلة، أعلن الرئيس المشارك لوزارة “الكفاءة الحكومية” إيلون ماسك نية واشنطن إغلاق “الوكالة الأميركية للمساعدات للتنمية الدولية” (يو أس أيد). “لقد حان الوقت لكي تموت”، أضاف ماسك في تعليق على منصة “أكس”.
ما لم يقله هو “أنه حان الوقت كي يموت معها النفوذ العالمي للولايات المتحدة”.
“مقعد بثلاثة أرجل”
ثمة نمط من الأفكار والسلوكيات يُظهر أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يؤمن بالشكل البدائي للقوة، أي بصفتها الخشنة أو الصلبة. بحسب منظوره، لا يمكن للحلفاء والأعداء أن يلبوا مطالب الولايات المتحدة إلا عبر الإكراه. كلما كان الإكراه أكبر ظهرت النتائج بشكل أسرع، بحسب منطق الرئيس.
للتأكيد، ليس كل هذا المنطق معيوباً كلياً. إذا كانت الأمور تقاس بنتائجها، وهي كذلك، فالقوة الخشنة الأميركية ليست بلا فوائد للولايات المتحدة، أو لرئيسها على الأقل. التهديد بفرض تعريفات جمركية مثلاً أثمر عن بعض التنازلات الكندية والمكسيكية. التهديد بانسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي ساهم في تسريع اتخاذ دوله قرار رفع عتبة الإنفاق الدفاعي. لكن إحدى المشاكل تكمن في الاعتماد حصراً على هذا المعيار من القوة.
يرى السفير الأميركي الأسبق في عدد من الدول الآسيوية والعربية ريان كروكر أن نفوذ الولايات المتحدة يعتمد على “مقعد بثلاثة أرجل” وهي الدفاع والديبلوماسية والتنمية. قد يقوض ترامب بشكل مجاني أحد الأساسات الثلاثة لنفوذ بلاده العالمي إذا أغلق الوكالة. يصعب أن تتربع أميركا على عرش عالمي برجلين وحسب.
“تعطيل القوة الناعمة”
المشكلة الثانية في القرار الحالي هي في أساس الإغلاق. يبدو أن حسابات ماسك تقوم على قياس النفقات والمردود بشكل حصري. لكن مردود الوكالة الأميركية معنوي أكثر منه مادي، وهي لا تثمر النتائج المتوخاة إلا بطريقة غير ملموسة وبعد أعوام من تنفيذ برامجها. بالتالي، يختلف قياس الكفاءة في هذه الوكالة عن طريقة قياسها مثلاً في شركات كـ “تسلا” و”سبيس أكس”. علاوة على ذلك، لا تمثل كل الموازنة المخصصة للوكالة أكثر من 1% من الموازنة الأميركية العامة، كي يعود إغلاقها المحتمل بالنفع المادي على الأميركيين.
ثم هناك طريقة التدقيق. ذكرت تقارير أنه تم تحويل اثنين من ضباط الأمن في الوكالة الأميركية إلى الإجازة بعد منع مسؤولين من وزارة الكفاءة الحكومية من الوصول إلى معلومات سرية. وحصل المسؤولون، بالرغم من عدم حيازتهما التصريح الأمني، على المعلومات السرية في نهاية المطاف، علماً أنهم في أواخر العقد الثاني أو أوائل العقد الثالث من عمرهم. ولا يعني إغلاق الوكالة أو تقييدها خسارة فرص تنموية مستقبلية للمستفيدين منها. فبعض مساعداتها حرجة إلى درجة أنها تنقذ حياة الآلاف من المرضى حول العالم، من بينهم من يواجهون مرض نقص المناعة المكتسب.
يَظهر أن ترامب وماسك معجبان بصفة “المعطِّل”من دون أن يأبها كثيراً بأن ما قد يتعطل في النهاية هو قوة الولايات المتحدة الناعمة.
طوّر العالم السياسي في جامعة هارفارد جوزف ناي مفهوم “القوة الناعمة” بدءاً من سنة 1990 وهي قامت على استمالة الخصوم بدلاً من إكراههم، أو دفع الدول الأخرى إلى “أن تريد ما تريده” الدولة المعنية. إنه الشكل الأقل كلفة والأكثر فاعلية للقوة، وإن لم يكن دوماً قابلاً للتطبيق. لهذا السبب، تحدث ناي أيضاً عن مفهوم “القوة الذكية” الذي يزاوج بين القوتين الصلبة والناعمة. أعطى مثلاً على ذلك النصيحة الشهيرةللرئيس الأسبق تيودور روزفلت عن ضرورة التحدث بلطف مع حمل عصا غليظة. اليوم، يكتفي ترامب بحمل العصا الغليظة… وضد إحدى نقاط القوة الأميركية.
“طبق من فضة”
حين أسس الوكالة سنة 1961، أراد الرئيس الأسبق جون كينيدي تحقيق هدفين: مواجهة الاتحاد السوفياتي، وإدارة برامج مختلفة من المساعدات، بناء على فكرة ترابط الأمن القومي الأميركي باستقرار الدول الأخرى وتطورها الاقتصادي. في ولاية الرئيس الحالي، ثمة مؤشرات قوية إلى انفكاك محتمل بين هذين العاملين. ولا يحتاج الأمر إلى تكهنات معمقة لمعرفة أن المستفيد الأول من إغلاق الوكالة هو وريث الاتحاد السوفياتي على صعيد القوة العالمية: الصين.
“تمنح (الولايات المتحدة) الصين الفرصة المثالية لتوسيع تأثيرها، في وقت لا يبلي اقتصاد الصين بلاء حسناً”، كما يقول خبير شؤون الصحة العالمية في “مجلس العلاقات الخارجية” هوانع يانجونغ. بحسب رأيه، تقدم واشنطن هذه الهدية لبكين “على طبق من فضة”.
لا يلعب أوراقه جيداً
لقد كانت الوكالة دوماً عرضة لانتقادات أميركية، وخصوصاً من المحافظين الذين لم يروا فيها ما يخدم المصلحة القومية، وبشكل مباشر، مصلحة ناخبيهم. الفرق اليوم أن الأصوات المنتقدة أصبحت مقررة في البيت الأبيض.
في بداية الأسبوع، كتب ناي، مطور مفهوم القوة الناعمة، مقال رأي أشار فيه إلى أن الولايات المتحدة تملك جميع أوراق القوة السبع اليوم في مواجهة الصين. لكنه أضاف أن امتلاك أوراق القوة ليس كافياً لكسب السباق، إذ ينبغي أن يقترن باستخدام ملائم لتلك الأوراق. بانتظار معرفة مصير الوكالة النهائي، يبقى أن ما يحصل مع “يو أس أيد” يدحض فكرة الاستخدام الملائم لإحدى أوراق القوة الأميركية. وليس أنها الورقة الوحيدة التي يتم التفريط بها حالياً.