في بلدٍ ينهشه الانهيار الاقتصادي والأزمات المتلاحقة منذ عام 2019، يقف الاتحاد العمالي العام على “خط النار”، محاولاً الحفاظ على الحد الأدنى من حقوق العمال، وسط اتساع الفجوة بين ما هو مطلوب وما هو ممكن.
من الثورة إلى الجائحة، ومن الانهيار المالي إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، لم تُمنح الطبقة العاملة اللبنانية يوماً واحداً للراحة. وفي ظل هذا الواقع القاتم، يواجه الاتحاد العمالي العام انتقادات قاسية، أبرزها أنه بات أقرب إلى صوت السلطة منه إلى صوت العمال.
“فن الممكن” ومراعاة التفاوت بين المناطق
رئيس الاتحاد، بشارة الأسمر، يردّ على هذه الاتهامات في حديث خاص إلى “النهار”، مؤكداً أن عمل الاتحاد “يجري ضمن فن الممكن”، مع الأخذ في الحسبان واقع المؤسسات اللبنانية، خاصة تلك التي تضررت في الجنوب والبقاع نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية. من هنا، يرى أن مقاربة الملف العمالي تختلف بين المناطق، إذ لا يمكن التعامل في بيروت وجبل لبنان كما في الشمال وسائر الأطراف.
900 دولار شهرياً كحد أدنى للعيش الكريم
يشدد الأسمر على أن مفاوضات رفع الحد الأدنى للأجور ما زالت تراوح مكانها، رغم إصراره على أن “الراتب المقبول لا يجب أن يقل عن 900 دولار”، استناداً إلى دراسات علمية حديثة. أما في العاصمة، فيُقدّر الحد الأدنى للعيش الكريم بأكثر من 1200 دولار شهرياً، بسبب الغلاء وكلفة الإيجارات المرتفعة.
ورغم هذه الأرقام، تقابلها الهيئات الاقتصادية بالرفض، بحجة عدم القدرة على الدفع، رغم استفادتها من دعم حكومي، وقروض على سعر صرف 1500 ليرة، ومنصة “صيرفة”، وسياسات نقدية لم تصب في مصلحة العمال.
تصحيحات غير عادلة وظروف معيشية قاسية
يشير الأسمر إلى أن “الزيادات التي طُبّقت في القطاع الخاص منذ بداية الأزمة لم تكن عادلة ولا شاملة”، واقتصرت بمعظمها على موظفي الشركات الكبرى أو المراكز الإدارية، بينما تُركت الغالبية من العمال، لا سيما في المصانع والزراعة والنقل والمياومين، من دون أي تصحيح حقيقي.
ويضيف: “هناك من لا يزال يتقاضى أقل من خمسة ملايين ليرة شهرياً، وهو مبلغ لا يغطي حتى كلفة التنقّل اليومي”.
الضمان الاجتماعي والتهرب من التصريح
يكشف رئيس الاتحاد أن “نحو 60% من أصحاب العمل لا يصرّحون عن الأجر الفعلي لصندوق الضمان الاجتماعي، بل يكتفون بالإفصاح عن الحد الأدنى”، ما يُعد تهرباً من المسؤولية ويُضعف وضع الصندوق. مع ذلك، يشير إلى أن الصندوق بدأ يستعيد بعضاً من ملاءته المالية بعد زيادات الحد الأدنى، بما يمكّنه من لعب دور أكبر في القطاع الصحي والطبي.
الاتحاد ليس تابعاً للسلطة
أما عن الاتهامات بتماهي الاتحاد مع السلطة، فيرفضها الأسمر بشدة، مشيراً إلى أن الاتحاد “عاجز حتى عن دفع رواتب عدد من موظفيه”، وأنه شخصياً “رفع دعوى أمام مجلس شورى الدولة لإبطال المادة الثانية من مرسوم رفع الحد الأدنى للأجر، التي حُذفت منها الزيادة الخاصة بغلاء المعيشة”، وهو ما تسبب بتوتر مع الحكومة، “ودليل على أن الاتحاد لا يساوم على حقوق العمال”.
ويشدد على أن العمل النقابي الحقيقي “يُبنى على التضامن، لا على التبعية للأحزاب أو الزعامات الطائفية”. ففي حين تنجح بعض القوى السياسية في حشد مئات الآلاف، يعجز الاتحاد عن تنظيم تظاهرة واحدة، “لأن العامل لا يملك حتى كلفة التنقّل، ولا يستطيع التخلي عن عمله للنزول إلى الشارع”.
دعوة إلى واقعية جديدة
في ختام حديثه، يدعو الأسمر إلى اعتماد واقعية جديدة في مقاربة ملف الأجور، “ترتكز على العدالة لا على الشعارات”، مشدداً على أن “غياب الدولة وتهرّب أصحاب العمل يُهدّدان ما تبقى من الضمان الاجتماعي وكرامة العمل في لبنان”.
ورغم اعترافه بصعوبة المرحلة، يؤكد أن “النضال سيستمر، ضمن حدود الممكن، لحماية ما تبقى من الحقوق، في انتظار أن تستفيق الدولة وتعود إلى دورها الحقيقي في حماية الفئات الأكثر هشاشة”.