أثار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مجددًا، الجدل بتصريحات لا تستند إلى وقائع، حين زعم أن للولايات المتحدة فضلًا في إنشاء قناة السويس، مطالبًا بإعفاء السفن الأميركية من رسوم العبور. ادعاءٌ قوبل بموجة استنكار واسعة في مصر، بالنظر لما تمثله القناة من رمز للسيادة الوطنية، ولأنها إنجاز مصري خالص، محفور بعرق وموت عشرات الآلاف من العمال المصريين.
أرقام تفنّد الادعاء
تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن ما بين 1,000 و2,000 سفينة أميركية تعبر قناة السويس سنويًا، من أصل نحو 20,000 سفينة تمر عبر القناة، أي ما يعادل نحو 5% إلى 10% من إجمالي الحركة البحرية. وبما أن القناة تدرّ على مصر أكثر من 9 مليارات دولار سنويًا، فإن العائد من السفن الأميركية يقدَّر بين 500 مليون إلى مليار دولار.
وبالتالي، فإن إعفاء السفن الأميركية من الرسوم يعني خسارة فورية لمصر تصل إلى مليار دولار سنويًا، أي ما يزيد عن 11% من إيرادات القناة. هذا الطرح يهدف، من منظور ترامب، إلى تقليص التكاليف التشغيلية للشركات الأميركية في إطار شعاره “أميركا أولاً”، لكن على حساب مصالح الدول الأخرى وسيادتها الاقتصادية.
التاريخ يردّ
التاريخ يُكذب مزاعم ترامب بشكل قاطع. فمشروع القناة بدأ عام 1859، حين كانت أميركا غارقة في الحرب الأهلية، ولم تشارك لا بتمويل ولا بجهد. تشير الوثائق إلى أن أكثر من مليون مصري ساهموا في الحفر، وتم تنفيذ المشروع بقيادة شركة فرنسية دون أي دور أميركي يُذكر. بل إن الولايات المتحدة امتنعت عن الاكتتاب في أسهم الشركة الفرنسية آنذاك.
افتُتحت القناة رسميًا عام 1869، وبرزت منذ ذلك الحين كممر دولي حيوي يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، ويخدم نحو 12% من التجارة العالمية. وفي عام 1956، قام الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم القناة، ما أدى إلى العدوان الثلاثي، في دلالة جديدة على الأهمية الاستراتيجية للممر.
قانونيًا… كلام لا يُعتد به
من حيث القانون الدولي، تُدار القناة وفق اتفاقية القسطنطينية لعام 1888، التي تنص على حرية الملاحة لجميع السفن التجارية دون تمييز، بشرط احترام السيادة المصرية. بالتالي، فإن إعفاء دولة واحدة من الرسوم يُعدّ خرقًا للاتفاقية، وانتهاكًا لمبدأ “المعاملة المتساوية”.
أما من الناحية القانونية المحلية، فتُحدَّد رسوم العبور بقرارات سيادية صادرة عن هيئة قناة السويس، ولا تملك أي دولة أجنبية حق التدخل فيها أو فرض استثناءات.
أبعاد اقتصادية وجيوسياسية
من الناحية الاقتصادية، تطمح الولايات المتحدة لخفض تكاليف الشحن نحو آسيا وأفريقيا، وتخفيف أعباء استيراد النفط والسلع من الخليج والهند والصين، في إطار التنافس الحاد مع الصين. لكن هذه المكاسب الأميركية المحتملة تأتي مقابل خسائر مصرية جسيمة، وقد تشجع دولًا أخرى مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي على المطالبة بإعفاءات مماثلة، ما يهدد النموذج الاقتصادي المستقل للقناة.
أسوأ من ذلك، إن رضخت مصر لهذا المطلب، فإن الثقة الدولية في إدارة قناة السويس ستتراجع، وسيُنظر إليها كممرّ خاضع للضغوط السياسية لا كمرفق دولي محايد. أما الدول المالكة لمضائق استراتيجية مثل هرمز وباب المندب وبنما، فقد تردّ بفرض رسوم إضافية على السفن الأميركية، مما يفتح الباب أمام توتر دولي متصاعد.
ختامًا
تصريحات ترامب بشأن قناة السويس ليست سوى محاولة لتبرير تقليص الكلفة الأميركية عبر سردية تاريخية زائفة لا تستند إلى واقع أو قانون. المكسب الأميركي المالي محدود نسبيًا، في حين أن الخسارة الاستراتيجية والاقتصادية لمصر – وللنظام التجاري الدولي – ستكون فادحة. قناة السويس ستبقى خاضعة للسيادة المصرية الكاملة، ولن تكون أداة تفاوض لسياسات انتخابية أو مواقف شعبوية عابرة