في إطار ما يُعرف بـ”نظرية التمكين”، التي تُعدّ من أبرز أدبيات جماعة “الإخوان المسلمين”، تُواجه حركة “النهضة” اتهامات بتوظيف أنصارها في الإدارات التونسية بعد 2011 دون استيفاء الشروط القانونية، واعتماد شهادات مزورة في بعض الحالات.
ومع استبعاد الإسلاميين من الحكم عام 2021، انطلقت السلطات التونسية في عملية واسعة تهدف إلى تفكيك ما يُوصف بـ”إرث النهضة”، وسط مطالب شعبية متصاعدة بـ”تطهير” مؤسسات الدولة واستعادة هيبتها.
تحت قبة البرلمان
الجمعة الماضية، عاد هذا الملف إلى الواجهة من خلال جلسة استماع نظّمتها لجنة تنظيم الإدارة ومكافحة الفساد في البرلمان التونسي، خُصصت لمتابعة التدقيق الشامل في التعيينات الحكومية بعد 2011.
النائب بوبكر يحيى، مقرر اللجنة، أوضح في تصريح لـ”النهار” أن أكثر من 26 لجنة تدقيق، بمشاركة أكثر من 436 خبيراً ومراقباً من مختلف الهيئات الرقابية، أنهت أعمالها، وتم إعداد تقرير شامل حول نتائجها، من دون الإفصاح عن أرقام دقيقة، لكن مع تأكيد أن الأرقام “كبيرة ومقلقة”.
“نظرية التمكين” في قلب الاتهامات
يؤكد يحيى أن حركة “النهضة” استغلت مرسوم “العفو التشريعي العام” الصادر في 19 فبراير 2011 لتعيين الآلاف من مناصريها في مفاصل الدولة، ما تسبب في إغراق المؤسسات بموظفين يفتقرون إلى الكفاءة، مقابل تعطيل فرص التشغيل أمام التونسيين المؤهلين.
وبحسب تقارير اقتصادية، فإن عدد الموظفين في القطاع الحكومي ارتفع من نحو 217 ألفاً قبل 2011 إلى ما يقارب 800 ألف بعد الثورة، ما شكّل عبئاً ضخماً على الدولة، وساهم في إضعاف أداء مؤسساتها.
الرئيس سعيد يدخل على الخط
الرئيس قيس سعيد كان أول من دعا علناً إلى فتح هذا الملف، ويُتابعه عن كثب منذ عام 2023. ووفق تصريحات مسؤولين، كشف سعيد عن وجود أكثر من 2700 حالة توظيف استندت إلى شهادات مزورة.
ويُعدّ هذا المسار، بحسب النائب بدر الدين القمودي، “استجابة لمطلب شعبي واسع بالمحاسبة منذ احتجاجات 25 يوليو 2021”، مشدداً على ضرورة إحالة المخالفين إلى القضاء، تحقيقاً للعدالة وتعزيزاً للحوكمة والشفافية.
مئات آلاف التعيينات قيد التحقيق
تضاربت التقديرات بشأن عدد التعيينات المشبوهة، إلا أن تقريراً صادراً عن “المرصد التونسي للاقتصاد” عام 2017 قدّرها بنحو 72 ألفاً خلال الولاية الأولى لحزب النهضة. كما أشارت مصادر إلى أن الرقم الإجمالي قد يصل إلى مئات الآلاف.
وتتّهم السلطات من تمّ تعيينهم في تلك الفترة بتسخير مؤسسات الدولة لخدمة أهداف حزبية، وقد أشارت تقارير إلى وجود جهاز أمني موازٍ داخل وزارة الداخلية ارتبط اسمه بملفات الاغتيالات السياسية التي شهدتها البلاد عام 2013.
العدالة قبل الانتدابات الجديدة
وفي ظل استعداد الحكومة لفتح باب الانتدابات مجدداً، يؤكد النائب بوبكر يحيى أن المسار الحالي “يبعث برسالة ردع لمن تسوّل له استغلال الوظيفة العمومية لتحقيق مكاسب حزبية”، مشيراً إلى أن المحاسبة ضرورة لضمان عدم تكرار مثل هذه التجاوزات مستقبلاً.
ورغم نفي حركة “النهضة” الاتهامات الموجّهة إليها واعتبارها حملة سياسية ضدها، فإن السلطات التونسية ماضية في هذا الملف، الذي يُعد من أكثر ملفات ما بعد الثورة حساسيةً وتشعّباً، وسط جدل داخلي محتدم بين من يعتبره مسار تطهير، ومن يراه تصفية حسابات سياسية.