يعد كتاب (يوسف محمد علي الفاهوم.. فارس الناصرة وحاميها في عام النكبة الفلسطينية 1948) والصادر عام 2023، للباحث الفلسطيني، خالد عوض، واحد من الكتب البارزة التي تضيء على تاريخ مدينة الناصرة ورئيس بلديتها إبان النكبة.
الكتاب المكون من سبعة فصول، تناول مدينة الناصرة، مع إحاطة شاملة بأوضاع فلسطين في فترة حركات الاصلاح العثمانية والتحولات التي شهدتها البلاد، وتشكل المجالس البلدية في تلك المرحلة، وبشكل خاص مجلس بلدي الناصرة ورؤساء بلديتها منذ التأسيس في عام 1897 وحتى العام 1918.
ويتناول الكتاب، الناصرة في نهاية الحكم العثماني وبداية الانتداب البريطاني، والجذور التاريخية لعائلة الفاهوم، والأحداث التي عصفت في فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والنكبة الفلسطينية 15 أيار 1948، واستسلام الناصرة في 16 تموز 1948، والناصرة ما بعد نكبة 1948، كما تضمن روايات شفوية لسقوط الناصرة وصورا ووثائق تاريخية للمدينة.
انتخب يوسف محمد علي الفاهوم رئيسا لبلدية الناصرة بتاريخ 11 أيار 1948 في ظل أوضاع وظروف غير طبيعية مرت على فلسطين عامة والناصرة خاصة، وكانت مفصلية في حياة المدينة، والأخطر عليها في كل تاريخها الطويل. وقبل انتخابه بأقل من شهر. وتحديدا في 18 نيسان 1948 سقطت طبريا، وفي 22 21 نيسان سقطت حيفا، وذلك بعد أن تم التنسيق بين المنظمات الصهيونية والقوات البريطانية، وفي يوم انتخابه سقطت صفد، وهذه المدن سقطت بأيدي قوات المنظمات الصهيونية المختلفة، وقد تم ترحيل جميع السكان العرب وتشريدهم من طبريا وصفد. أما في حيفا فقد تم ترحيل الأغلبية الساحقة من السكان إلى خارج البلاد، وإلى مناطق أخرى مثل الناصرة وقرى الجليل وتم تجميع من بقي منهم فيما بعد في الأحياء العربية القديمة.
بعد ثلاثة أيام من انتخابه أي في 14 أيار 1948 انسحبت بريطانيا من فلسطين، وتركت البلاد والناصرة من ضمنها، في حالة فوضى عارمة وضياع تضربها العواصف من كل جانب، وبعد أربعة أيام من انتخابه أعلن دافيد بن غوريون عن قيام دولة الإحتلال في 15 أيار 1948 وفي 17 أيار 1948 سقطت عكا، وفي 14 تموز 1948 سقطت شفاعمرو وقرية الشجرة، وفي 15 تموز 1948 سقطت قرينا المجيدل ومعلول، وفي 16 تموز 1948 سقطت صفورية عيلوط، ويافة الناصرة. كل هذه القرى المحيطة بالناصرة والقريبة منها وغيرها سقطت في أيدي الجيش الصهيوني الذي شكلت نواته الأساسية المنظمات العسكرية الصهيونية، وبلغ عدد أفراده عند إعلان قيام دولة الإحتلال 29500 مجند، وقد ازداد هذا العدد بعد أن أمر دافيد بن غوريون بدمج معظم هذه المنظمات في الجيش الصهيوني بين شهر آيار وتشرين الثاني من العام 1948 والذي اصبح تعداده في 9 أيلول 1948 حوالي 85000 جندي، وهذا العدد أكبر بكثير من عدد جنود الجيوش العربية والمتطوعين الفلسطينيين مجتمعين.
كان لهذا السقوط المدوي لتلك المدن والقرى أثره المباشر على الناصرة، إذ إن الناصرة ظلت المدينة العربية الوحيدة الصامدة، ومع قدوم معظم سكان تلك المدن والقرى اليها، أصبح عدد سكان الناصرة بين عشية وضحاها أكثر من ضعفها، وهكذا وجد يوسف الفاهوم نفسه المسؤول الأول والأخير عن سكان المدينة ولاجئيها. كان عليه أن يعمل على مدار الساعة من أجل توفير المأوى، المأكل والمشرب لكل مواطنيها، على الرغم من إمكانيات البلدية المحدودة، وهنا كان التناغم بأجمل صوره بين البلدية واللجنة القومية ومؤسسات المدينة بكنائسها وأديرتها وبيوت الضيافة، بجامعها الأبيض والخان التابع له، ومساعدات التجار والمساعدات الخارجية، كلها قامت مجتمعة بتوفير الحد الأدنى لحياة كريمة لسكان المدينة واللاجئين إليها. وكان الجيش الصهيوني بقيادة حاييم لاسكوف قائد حملة “ديكل” لاحتلال الناصرة الذي كان يحاصر المدينة من ثلاث جهات، والجهة الرابعة لا يوجد فيها قوات حيث إنها كانت مفتوحة لإفساح المجال لمن يريد مغادرة المدينة أو الهرب منها.
وحول سؤال: لماذا سلمت مدينة الناصرة من التدمير والتهجير المحتم؟ يجب الكتاب: عندما يستعمل بعض المؤرخين كلمة “تسليم” فإنه أمر مستهجن، لأن وظيفة المؤرخ تطلب منه انتقاء كلماته بدقة، إذ ان ما يكتبه يصبح مرجعا للأجيال القادمة.
إن معنى الاستسلام في اللغة خضوع طرف لآخر نتيجة قتال وحرب بينهما، وفى أغلب الأحيان تكون الطرفان ندين لبعضهما في مرحلة ما قبل هزيمة أحد الطرفين، وفى حالات معينة يكون الاستسلام بدون قتال كما حدث فى الناصرة، وفى هذه الحالة يكون الطرفان قد توصلا إلى اتفاق بينهم يتجنبان فيه القتال، فلكل طرف حساباته، وهذا بعكس التسليم الذي يقوم فيه شخص أو جهة بتسليم شيء ما لطرف آخر عن حب ورضا وقناعة.
يبدو أن رئيس بلدية الناصرة الذي عايش الأحداث بتفاصيلها، وقرأ الخارطة جيدًا بعد أن تأكل ان جيش الإنقاذ غير قادر على حماية المدينة، هذا الجيش الذي انسحب من المدينة قبل توقيع الاتفاقية جعله يحسم الأمر.
أمام هذا الواقع رأى رئيس البلدية المتابع لأحداث الحرب ومجرياتها، أن السكان لا حول لهم و وإن أرادوا القتال فالسلاح غير متوفر لديهم، إضافة إلى أخبار سقوط المدن والقرى التي كانت تصل إلى البلدية تباعا، والدمار والتشريد الذي حدث لتلك المدن والقرى، ولجوء سكانها لمدينة الناصرة، التي تحولت إلى مركز لاستيعاب اللاجئين الذين توافدوا إليها من كل حدب وصوب، ليحتموا فـيها، كانت هذه الأحداث مجتمعة عاملا حاسما في اتخاذ قرار الاستسلام”. يمكن القول إنه بتوقيع وثيقة الاستسلام نجت الناصرة من تهجير محتم.
من يرد أن يكون في موقع اتخاذ القرار عليه أن يكون قائدا جريئا شجاعا لمواجهة الواقع الذي كانت تعيشه مدينة الناصرة، هذه المدينة التي انسحب منها جيش الإنقاذ بين ليلة وضحاها، وأصبحت مركزا لاستيعاب اللاجئين. أضف إلى ذلك حالة الفوضى الناتجة عن غياب السلطة المركزية، ومحاصرة الجيش الصهيوني والمنظمات الصهيونية لمشارف المدينة، وسقوط القرى المحيطة بها، والمدن القريبة منها، جعل رئيس بلدية الناصرة يوسف الفاهوم يتخذ القرار الحاسم في التوقيع على وثيقة استسلام الناصرة، إذ لم يكن لديه خيار آخر، ومع توقيع الوثيقة، سلمت الناصرة من التشريد. ولولا هذا القرار لكانت الناصرة أشبه بالمدن التي تم تدميرها وتهجير سكانها بعد النكبة. في كل الأحوال، أي كان السبب كونها “مدينة مسيحية” أو الدور الذي قام به رئيس البلدية، أو كلاهما معا. الناصرة سلمت وسكانها.