بينما تواصل آلة القتل الصهيونية قصفها على لبنان، بدأت شركات البناء “الإسرائيلية” تروج لمستوطنات جديدة في الجنوب عبر الإعلانات والمواقع الإلكترونية. أطماع تعكس بوضوح الأجندة التوسعية “الإسرائيلية”، التي توظّف الحرب والموت بمنزلة فرصة لإعادة رسم الحدود وتغيير الواقع على الأرض. فرصة لا يكترث العقل الصهيوني خلفها من انكشاف لهاثه الدائم نحو توسعة رقعة الشر التي يحتلها.
تستهدف هذه الإعلانات، التي تعرض منازل فاخرة في جنوب لبنان، ضباط الاحتياط “الإسرائيليين” بشكل خاص، وتروج لمشاريع سكنية ستكون المرحلة الثانية من مشاريع «كرياتيم» و«بيفعات يوفي». وتشير هذه الإعلانات التي نشرها موقع uritsafon.com إلى خدمات عالية الجودة ومسابح فاخرة ومساحات معيشية واسعة. وهذا ليس مجرد إعلان عقاري، بل هو رسالة سياسية تعبّر عن نية زرع الوجود “الإسرائيلي” في الأراضي اللبنانية خلف أعمدة دخّان القنابل. وهذه الممارسة ليست جديدة؛ فقد استخدمتها إسرائيل سابقاً في الأراضي الفلسطينية، حيث استمرت المستوطنات في التوسع رغم الإدانات الدولية.
توجيه هذه المنازل لضباط الاحتياط فقط، يشير إلى أن “إسرائيل” تحاول جذب هؤلاء وخلق هدف شخصي لهم من أجل القتال في جنوب لبنان. ويعتبر استخدام العقارات أداة سياسية لخلق «حقائق على الأرض» من شأنها أن تصعّب أي مفاوضات مستقبلية تتعلق بالسيادة على هذه الأراضي، ما يعكس عقلية استعمارية واضحة.
تروّج شركات العقارات “الإسرائيلية” الآن لمشاريع بناء مستوطنات جديدة في الجنوب اللبناني، مستخدمة منصات التواصل الاجتماعي لبث إعلانات تستهدف المستوطنين الصهاينة، مغرية إياهم بشراء منازل في «الأراضي الموعودة». هذه الإعلانات تأتي بعد حملات إعلامية ممنهجة تبرّر العدوان العسكري “الإسرائيلي”، كما ورد في مقال نشرته صحيفة «جيروزاليم بوست» قبل حذفه، تحت عنوان: «هل لبنان جزء من الأراضي الموعودة لإسرائيل؟» بهدف تبرير الاجتياح البرّي الذي صرّح «جيش» العدو بأنّه يتحضر له.
إنّها طريقة عمل السرديّة الصهيونيّة التي تُستحدث كلّما تغيّرت المصالح “الإسرائيليّة”، فتكمل بمهمة غسل الأدمغة وخلق الأساطير والأكاذيب لتجذير المشروع الصهيوني. وبعدما استهدفت القوات الصهيونية ستة مبانٍ في حارة حريك بأطنان من القنابل، وقتل وجرح المئات من المدنيين، قررت صحيفة «نيويورك تايمز» تبرير الفعلة والإشادة بـ«المجهود الذي بُذل» من أجل استهداف الأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصرالله.
ليست هذه الإعلانات مجرد محاولة تجارية لجني الأرباح، بل هي جزء من إستراتيجية أكبر تهدف إلى تغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي في جنوب لبنان. تماماً كما تُستخدم القنابل والصواريخ لتدمير البنية التحتية اللبنانية وقتل المدنيين، توظف الإعلانات والعقارات كأداة لإعادة تشكيل الأرض بما يخدم المشروع الصهيوني. وتروّج ماكينات الصحافة والإعلام “الإسرائيلي” لهذه الإستراتيجية باعتبارها امتداداً «طبيعياً» لحقهم التاريخي المزعوم، ما يسهم في غسل الأدمغة وتبرير الانتهاكات الصهيونية.
إن تزامن هذه الإعلانات مع القصف العسكري ليس مصادفة. إنه جزء من خطة متكاملة تعمل منذ سنوات، تستند إلى مزيج من القوة العسكرية والهيمنة الثقافية والإعلامية.
فقد أثبتت التسريبات وخصوصاً الفيديو الذي انتشر على منصّة «إنستغرام»، كيف تمكنت “إسرائيل” من خرق عقول البشر. في التسريبات، شرحت معلمة مارست مهنتها في المدارس “الإسرائيليّة”، صوراً من المنهاج الذي تعتمده “إسرائيل” في مدارسها، فكانت صوَر العرب جميعها، تُظهرهم على أنّهم رُحّل وبدائيون ويستحقون القتل. وأكّدت أنّ ما تقوم به “إسرائيل” اليوم، هو نتاج تحضير طويل استغرقها أكثر من 15 عاماً، عملت فيه على خلق روح الإجرام في نفوس تلاميذها، والشوق إلى خلق «دولة إسرائيل الكبرى» على دماء شعب الشرق الأوسط، وجعلت من «جنودها» وحوشاً تصفق وترقص بعد كلّ جريمة مرتكبة، ما يغذي الروح الاستعمارية ويجعل من احتلال المزيد من الأراضي أمراً مشروعاً في عقول “الإسرائيليين”. هذه الحملات الإعلامية والعقارية تعمل معاً لتطبيع الاحتلال وتقديمه للعالم و”للإسرائيليين” أنفسهم كضرورة حضارية.
هكذا، تدمج “إسرائيل” بين الاستعمار الكلاسيكي المتمثل في السيطرة العسكرية وبين إستراتيجيات جديدة، مثل الاستعمار العقاري والإعلامي، لفرض هيمنتها على الأراضي اللبنانية، مستغلة ضعف الدولة اللبنانية والانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه. عبر تقديم أسعار تبدأ من 300 ألف شيكل إسرائيلي (حوالى 75,000 دولار أميركي)، تسعى “إسرائيل” إلى تأمين وجودها في لبنان عبر الحرب والتهجير وضعف الاقتصاد اللبناني.
وتعد الإعلانات “الإسرائيلية” التحضيرية لمستوطنات في لبنان تذكيراً واضحاً بالأجندة التوسعية والاحتلالية التي خبرتها شعوب المنطقة. في ظل تدمير لبنان، تستغل “إسرائيل” الفرصة لتعزيز طموحاتها الإقليمية، مستخدمةً التنمية العقارية كوسيلة للاحتلال. ويعد هذا مثالاً آخر على كيفية تداخل المصالح الرأسمالية والاستعمارية في أوقات الحرب.
في ظل هذه التطورات المتسارعة، يظهر جلياً أنّ المشروع “الإسرائيلي” لا يقتصر على التوسع العسكري فحسب، بل يمتد أيضاً ليشمل الأدوات الناعمة. إن هذه السياسات تشكل تهديداً حقيقياً لسيادة لبنان واستقراره، حيث تسعى “إسرائيل” إلى ترسيخ وجودها عبر استغلال الحروب والفوضى لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمصالحها التوسعية. ولكن يبقى الأمل في صمود الشعب اللبناني والمقاومة في مواجهة هذا المشروع، وفي استعادة سيادة الأرض والكرامة الوطنية. إن مقاومة هذا الاحتلال بأبعاده المختلفة تتطلب مواجهة شاملة على الصعد العسكرية، الاقتصادية، والثقافية، حتى لا تتحول أرض الجنوب إلى مستعمرة أخرى في المشروع الصهيوني الممتد